درر حسينية
لا ريب أن كلام الأئمة الأطهار(عليهم السلام) يشتمل على توجيهات وإرشادات الهدف منها تعليم الأمة معالم دينها ودنياها, فما يقولون هو دستورات وقوانين من المفترض أن يتعامل الناس معها معاملة أعلى وأجل من أيّ تعاليم أو قوانين أخرى, والسبب في ذلك أنهم وكلاء الله تعالى وواسطة بينه وبين خلقه فلا يقولون إلا عن الله, وعلى هذا الأساس فكل ما يقولونه لنفع الناس ويصبّ في مصلحة الفرد و المجتمع وتحقيق سعادتهم عن طريق إرشادهم وتعليمهم ما يهديهم إلى فلاحهم في النشأتين الدنيا والآخرة, أما الآخرة فمن خلال تعليمهم العبادة والأحكام والطاعات وما إليها الموصلة إلى رضا الباري جلّ وعلا, وأما في الدنيا فمن خلال الإرشادات والتوجيهات التي إن طبّقها الإنسان على حياته بجعلها نظاما مقدسا في مختلف شؤونه يصل بلا شك إلى ضالته وهي السعادة المنشودة والتي غالبا ما يبحث عنها إنسان الأمس واليوم في زوايا الأنظمة الوضعية وخبايا الكتب القانونية دونما طائل أو جدوى معتد بها, ثم إن كلام أهل البيت (عليهم السلام) كله نور وحكمة, فلا فرق في أحاديث أئمتنا الواحد منهم عن الآخر من حيث الأهمية, و لربما نرى تكرار المأثور عنهم باللفظ أو المضمون, مما يدلّنا على صدوره من مكان قدسي واحد, وأسباب تكراره لا تنحصر في فائدة واحدة قطعا, فمنها الإشارة إلى أهمية الموضوع المطروح من المواضيع الأخرى وتسليط الضوء عليه وغير ذلك, ونحن إذ نعيش أجواء فاجعة الطف ومأساة كربلاء الخالدة لا يسعنا إلا الامتزاج معها بكل مشاعرنا وأحاسيسنا والتفاعل معها بدرجة قصوى, وحين مطالعتي لبعض أقوال الإمام (عليه السلام) استوقفتني هذه المقولة المأثورة, فأخذت بمجامعي ورحت أتدبرها وأتأمل ما فيها فوجدتها متضمنة للعديد من المعاني السامية في عبارات قصيرة مختزلة منسقة فوددت أن أكتب عنها مع تعليق قصير حسب القدرة ومقدار الفهم, فمن درر ما قاله سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) وقد سأله سائل: كيف أصبحت يا ابن رسول الله؟, قال :أصبحت ولي ربّ فوقي، والنار أمامي، والموت يطلبني، والحساب محدق بي، وأنا مرتهن بعملي، لا أجد ما أحب ولا أدفع ما أكره، والأمور بيد غيري، فإن شاء عذبني، وإن شاء عفا عني، فأيّ فقير أفقر مني ) , يُصوّر الإمام (عليه السلام) هنا حالة كلّ من يحيى على وجه البسيطة, وأنه كيف يجب أن يفكر باعتباره عبدا لله تعالى, وإلا فالكافر وغير الملتزم بالدين لا يستحضر ما ذكره الإمام من المعاني في ذهنه إطلاقا, فيذكر(عليه السلام) أربعة من الأمور المهمة والتي لا بدّ لكل منّا أن يجعلها في صباح كل يوم نصب عينيه, أولاها أن الله ناظر على أعمالنا كلّها صغيرها وكبيرها, وهذا واحد من معاني الفوقية, وثانيها أن النار (والمقصود منها نار جهنم المستعرة) أمامنا أي تنتظر المسيئين منّا وتهدّدهم في كل حين, وأما الموت وهو الثالث فهو ينتظرنا بفارغ الصبر ولكل من الموجودات أجل معين ووقت محدّد, ونحن نقترب من آجالنا بانصرام أيام عمرنا, كما أن الحساب في يوم الجزاء (وهو الرابع) محدق بنا ليُثاب كل إنسان على عمله إن كان حسنا, ويُعاقب على فعله إن كان سيئا, ثم يُعقّب الإمام بأنه مرتهن بعمله وكل منّا كذلك لا يجني إلا ما يزرع, و لايحصد إلا ما يغرس فهو رهين عمله ومأخوذ به ومجازى عليه, وفوق ما ذُكر فإن الإنسان غالبا لا يُلاقي ما يحب و لا يجد ما يرغب فيه, فلا تتحقق رغباته وأمانيه, كما أنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ما يكره كالمرض وأنواع البلاء والشدائد وغير ذلك, وبما أن كل الأمور بيد الله القادر المتعال وهي لا تخرج عن أمره و لا تحيد عن إرادته, فإنه تعالى مخيّر بين تعذيبنا بسبب ما اقترفنا من الذنوب والآثام, أو أن يعفو عنّا ويتجاوز عن سيئاتنا وهو العفوّ الغفور, فالإنسان المتّصف بهذه الصفات العديدة لا يوجد أفقر منه و لا أكثر حاجة منه إلى رحمة ربّه ذي الرحمة الواسعة.