عوامل القوة لإدامة زخم المعركة
لم يزل التأريخ الإنساني يمثل المورد الذي تستقي منه البشرية عصارة تجاربها كونه العمق الممتد الضارب في جذورها، فلا بد أن يكون المنطلق والخوض في أي مشروع إنساني معززاً بتجارب إنسانية سابقة تبلغ به مستوىً من النضج بما يجعله يحوي نتائج مضمونة تحقق طموحات وأهداف الجهة المخططة لذلك المشروع.
لقد أفرزت الصراعات المعاصرة مع قوى الاستكبار العالمي على الصعيدين السياسي والعسكري تجارب فريدة من نوعها، قلبت موازين القوى وغيرت المعادلة لصالح الشعوب المبتلاة بهذه القوى الاستكبارية، ولقد كانت انتصارات الجنوب اللبناني على العدوان الصهيوني أحد تلك التجارب القريبة التي جدعت أنف هذا العدوان وبددت أسطورة الخوف والهلع من هذا الكيان التي تسببها خيانة الساسة العرب وتخاذلهم، وكما أحدثت تلك الانتصارات صدمةً لتلك القوى الاستكبارية فقد سببت الهزائم المتلاحقة لكيان داعش الإرهابي في وطننا العزيز صدمةً أكبر لها أمام صمود وبطولات الحشد الشعبي وفصائل المقاومة، وأمام هذه التجربة الفريدة التي مثّلت التفاف الجماهير العراقية المخلصة خلف المرجعية الرشيدة المتمثلة بالمرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله الوارف) في الدفاع عن الوطن والمقدسات.
إنّ من الملفت للنظر والمثير لاستغراب تلك القوى الاستكبارية تماسك هذا السد المنيع والجدار الصلب الذي يمثله الحشد الشعبي وفصائله أمام كل التحديات والمؤامرات التي تحاك من قبلها، ومن المؤكد أن ما يدور من الصراع السلطوي واحتدامه داخل قبة البرلمان العراقي، لا يخلو من تدخلات وأصابع أجنبية تتلاعب من خلف الكواليس بدواعش السياسة لإشغال الرأي العام عن المزيد من الاهتمام والدعم لقوى الحشد في إتمام دورهم الجهادي وطرد ما تبقى من كيان داعش الإرهابي، غير أن ما يثلج الصدر ويبعث الأمل في مستقبلٍ مشرقٍ لهذا الوطن أنّ أبطالنا في الحشد الشعبي ومن يقف وراءهم من المخلصين لهذا الوطن يَعونُ جيداً تلك المؤمرات وهم ماضون بعزمهم للتصدي، وتحرير آخر شبرٍ من أيادي التكفير الغاشمة.
وما دمنا نتحدث عن الحشد الشعبي كتجربة ٍ هائلةٍ غير مسبوقةٍ أخذت تمتلأ بها صفحات مجد عراقنا المعاصر، فمن المناسب تسليط الضوء على عوامل القوة التي يمتلكها حشدنا المقدس، فعوامل القوة الرئيسية والمحركة لطاقات الحشد والتي تذكي فيهم الروح المعنوية العالية لأولئك الأشاوس عند المواجهة, والتي تجعل من الدعم اللوجستي وتأثير موازين القوى الإقليمية والدولية أقل أهميةً مما تشكله هذه الروح القتالية الجبارة، والاندفاع المستميت لاقتحام ثكنات العدو الداعشي دون تراجع، ولا شكّ أنّ في إذكاء هذه الروح العالية تكمن أسباب مهمة وحيوية، يأتي في مقدمتها الإيمان العقائدي المطلق، وما في هذا الإيمان من نفحات نورانية تضيء أفئدة المقاتلين، وتجعلهم يستشعرون القيمة الحقيقية التي ينعقد عليها ثمن ثباتهم عند الزحف، كما في قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ) – الأنفال، فثباتهم يعني انتصار للحق والعدالة وهزيمة للظلم والعدوان الداعشي، وقبالة هذا الثبات يعدهم إحدى الحسنيين إما النصر أو الشهادة، ويعد أعداءهم العذاب والهوان بقوله سبحانه (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ) – التوبة، كما أن الإيمان بعدالة القضية هو مما شدد من عزيمة المقاتلين، وضاعف قدراتهم الجهادية، وساهم في تحولهم من حالة الدفاع إلى الهجوم، ومن العوامل الأخرى الرئيسة التي أسهمت في توحيد صفوف الجماهير العراقية، هو جهود المرجعية الرشيدة في إيقاظ الضمائر الحية ودعوتها لمواجهة العدو المشترك، وبوتقة قواها المخلصة تحت عنوان وطني مشترك هو الحشد الشعبي، والذي شمل المتطوعين تلبيةً لفتوى المرجعية الرشيدة في الدفاع عن الوطن والمقدسات، ومن حذا حذوهم من أطياف ومكونات أخرى، بما يملي عليهم الحس الوطني من واجب في التصدّي لأعداء هذا الوطن ممن أحرقوا الحرث والنسل وعاثوا الفساد بهذا البلد، ولم يراعوا له إلاً ولا ذمةً، ولا تركوا له كرامةً أو حرمةً إلا وانتهكوها، بلى فقد أدرك العراقيون الغيارى أنّ عدوّهم عدوٌ مشتركٌ يوجب عليهم المواجهة المشتركة، وأنّ الخيمة العراقية لا تتسع إلا للشرفاء ولا تسمح أن يستظل بها من ينعق نعيق الغراب قادحاً بأبناء جلدته المتجحفلين مع حشدهم الشعبي المقدس، ومن لطائف ما صنعه هذا الجهاد أن ساهم في إماطة اللثام عن الوجوه الكالحة وسلبها أقنعتها المزيفة في إدعاء المواطنة الصادقة، وهي تخفي وراءها النوايا الغادرة لتنفيذ أجندات خارجية تحاول هدم هذا الوطن وتسعى الى تقويض دعائمه والحطّ من كرامة أهله وشرفهم.
وكما أن الواجب الديني والوطني يستدعي منا المزيد من تحقيق الانتصارات، وفي وقت قياسي نقطع فيه الطريق على كيان داعش الإرهابي من لملمة فلوله المتبعثرة جرّاء هزائمه المتلاحقة، فإنّ المعركة تتطلب جهوداً مضاعفة لإدامة زخمها من حيث العُدة والعدد، وأن لا يحول الاغترار بالنصر دون تلبية ما هو لازم لذلك، فالتآزر الجماهيري وتماسك الجبهتين الداخلية والخارجية المتمثل في دعم مقاتلي الحشد الشعبي، وتذليل كافة الصعاب التي تحول دون تلبية احتياجاتهم، وأنّ يكون تكريم من هم أمانةٌ في أعناقنا من عوائل الشهداء ورعاية أسرهم من أولويات اهتماماتنا كشعبٍ معطاءٍ ينهض بأعظم مسؤوليةٍ أمميةٍ كونه يخوض حرباً بالنيابة عن المجتمع الدولي في تصدّيه للإرهاب، وليس في ذلك مكابرةً لشعبٍ قدّر له أن يُعدّ إعداداً رسالياً لاستقبال عصر ظهور مهديّ هذه الأمة وريادة العالم تحت لوائه (عجل الله فرجه).