أربع ساعات
قال الإمام الكاظم(عليه السلام): واجتهدوا أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة منه لمناجاته، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان الثقات، والذين يعرّفونكم عيوبكم، ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذّاتكم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث الساعات .
المقاطع الزمنية فرص لا تتكرر والعالم في تغيّر متواصل ومظاهره في اتساع.. يجب أن نستثمره, ولكن كيف؟ علينا أن نفكر, ولكن كيف نفكر, وبماذا؟ ومن أين مَعين موادنا الفكرية؟ هل نحن واقعون في دائرة الإفلاس الفكري؟ هل لدينا من الفكر شيء نعيش على وفقه؟ هل سننجو؟ يمكن أن تضيع أقدامنا من الطريق وبعدها نضيع؟ هل نستطيع أن نتحرر من الخوف والجهل والظلم والجوع والمرض؟ هل الماضي بكل ما يحوي ماض فقط أم له علاقة بالحاضر والمستقبل؟
ما دمنا شبابا .. قبل أن يداهمنا المستقبل ونفقد التوازن, وقبل أن يتضاعف ضغطه علينا فنفقد الارتباط بالواقع وتتبدد قدرتنا على التمييز بين الحقائق الثابتة والأوهام, علينا أن نكون أناساً حقيقيين, لأن الإنسان الحقيقي لا يتقوقع في زمن واحد, بل هو كائن مستقبلي في حركته, فيه ذاكرة وتوقع, ينظم من خلالهما حياته الحاضرة والمستقبلية ممدوداً من الماضي في ذاكرته وذاكرة أمته بجمل المعارف, يتحرك على أساسها وهذا التحرك لا بد أن يكون نحو الأهم لكي نرفع عن أنفسنا الحيرة حين نتجه بالاتجاه السليم وحين نستقي معارفنا من ينابيعها الصافية, فعملية استثمار الوقت وكما يطلق عليه اليوم إدارة الوقت يأتي بالتنظيم الجيد والاستغلال الأمثل ببرامج ومشاريع ترتقي بالإنسان على كلا الصعيدين الشخصي منها والاجتماعي وهو الذي أشار إليه الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) في هذا الحديث وقسمه إلى أربعة أقسام عبرت عنه الكلمات بـ(ساعات).
مع الحديث:
يظهر من كلامه (عليه السلام) أنه قدّم الأهم على المهم في هذه الأقسام فقال(عليه السلام): (ساعة منه لمناجاته), وأبرز مصاديقها الصلاة فهي رافد يغذي الفرد بالعقيدة ويرسخها في النفس, وهي ملجأ الإنسان حين تعييه المشاكل وتعب الحياة ليعيش الصفاء الروحي الذي يستلهمه من العلاقة مع الله سبحانه وتعالى, ثم إنها كما أوحى الله تبارك اسمه (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) أقوى رادع للنفس, فالفحشاء تمنع الإنسان من السلوك إلى الله وعن الإخلاص له, والمنكر يمنع الإنسان من إجزاء الآخرين بالشكر والعرفان , بل قد يصل الأمر به إلى تعييب الآخرين وجحود فضلهم من رأس وتقبيح أفعالهم, وعليه فإن الصلاة تقيم حاجزاً على هاتين السيئتين, ومن رُفع عنه هاتان كان سالكاً إلى الله جل ذكره, ومخلصاً له ومؤدياً لحقوق الله تعالى ثم حقوق الآخرين سواء كانوا منعمين عليه أم كانوا محتاجين إليه, ومن هذه الساعة يقتدر على الساعة الثانية فقد جاء عن صادق أهل البيت (عليهم السلام) أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) قوله: (إنها السعة في الرزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا ورضوان الله والجنة في الآخرة)، فالفرد الواعي بعد أن يعيش في الصلاة حالة الحضور الرباني في نفسه يتوجه بالطلب لإفاضة الرزق عليه فالذي يقول: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) لا يقطع رزقه الذي قدره له، يسعى في طلب الرزق مؤمناً بأن من قال له: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ) لا يتركه، لا يكسر الضعف عزمه ولا يشعر بالحاجة والافتقار إلا إليه جل ذكره.
وتأكيد الإمام (ع) على هذه الساعة جاء لرفع توهم أن الساعة الأولى تكفي عن الساعة الثانية، وهو غير مقبول عند الله وأولي الأمر، روي أن عمر بن مسلما انقطع عن الإمام الصادق (عليه السلام) فترة معينة فسأل عنه وقال: ما فعل عمر بن مسلم؟ قلت: جعلت فداك أقبل على العبادة و ترك التجارة فقال: ويحه! أما علم أن تارك الطلب لا يستجاب له، إنّ قوما من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا نزلت: (وَ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أغلقوا الأبواب و أقبلوا على العبادة و قالوا: قد كفينا، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فأرسل إليهم قال: (ما حملكم على ما صنعتم به) فقالوا: يا رسول الله تكفل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة قال (صلى الله عليه وآله): إنّه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب .
القسم الثالث
ثم ينتقل الإمام (عليه السلام) للقسم الثالث للوقت فيقول: وساعة لمعاشرة الإخوان الثقات، والذين يعرّفونكم عيوبكم، ويخلصون لكم في الباطن, فليس الوقت لكل أحد بل للأخوة الثقات, وليس هناك شك أن الصديق المؤمن هو مرآة كاشفة لأعمالنا ونتيجة صدقه فهو لا يخدعنا ولهذا لا بد من انتخاب الأصدقاء المخلصين لأنهم عوامل مساعدة للوصول إلى الأهداف المرجوة, وهذه الكلمات تشعرنا بأهمية البحث عن هذا الصنف من الناس والتحري عنهم وبذل الجهد في الوصول إليهم, ولا يُقبل الركون إلى مقولة أين أجد مثل هذا الصنف, وأن هؤلاء من عالم المثل, ولكن الحقيقة التي يجب أن نصرح بها إن الذي يعجز عن انتخاب نخبة لحياته كان من العاجزين كما ورد وصفه في الحديث الشريف (أعجز الناس من عجز عن اكتساب الأخوان وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم), نعم إن الأخ الصالح والصديق الوفي عنصر من عناصر النجاح في الحياة, وسورة العصر المباركة شاهد حيّ لنا, قال تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) يعمم الخسران لكل إنسان إلا من اتصف بصفات أربع: الأولى الإيمان بالله تعالى, والثانية العمل الصالح الموافق لما أمر الله به ويشمل كل خير ظاهرا أو باطنا, والثالثة الأخوة الصالحون فهم يرشدون وينبهون الباقين من إخوتهم على الثبوت على الموقف الحق والطريق الحق ويوصوهم بالصبر عليه, إذن الأخوة الثقاة هم مفتاح من مفاتيح الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
القسم الرابع:
تطلق اللذة على الأمور الحسية كما في دفع ألم الجوع بالطعام, أو على الأمر الوهمي كما في الفوز في المسابقات الرياضية أو اللهوية كالشطرنج أو النرد, وتطلق على اللذة الروحية كما في العلم والمعرفة, ولكل إنسان نصيب حسب استعداده, فسعادة الإنسان السطحي غير سعادة العالم والمتعلم, ويقينا أن الإمام (عليه السلام) لا يريد منها الأمر الثاني لأن السعادة الحقيقية تأتي من اللذة الحقيقية لا الوهمية, وعليه ينبغي من الفرد العاقل أن يهتم بالجانب الروحي وهو طلب العلم, فهي أداة الوصول للساعة الأولى لأن الإيمان فرع العلم لأن من لا يعرف ربه لا يعبده, ومن لا يعلم مبتدأ مسلكه لا يعلم منتهاه, ومن جهل قيمة العلم جهل قيمة حملته, لهذا كانت هذه الساعة عوناً للإنسان على تلك الساعات.
آخر القول: علينا أن لا نضيّع أنفسنا بالاستغراق في أمر و نهمل الباقي, كما اليوم نرى كثيرا من إخوتنا يستغرقهم الجلوس أمام شاشات الحاسبات أو الهاتف المحمول إما بالتصفح العشوائي أو اللعب بالألعاب الموجودة فيه أو غيرها.