إليكِ عني
كم ناداني صوتها وأغرتني بأموالها, وجذبتني بزينتها, وعرضت عليّ زبرجها, ومنحتني الأمان بطول الأمل, وأغرقتني في بحور الغفلة, والنسيان, والتسويف, وأوقعتني مراراً في شباك مكرها وكيدها.
هناك وقد ركنت إليها وأعجبني العيش في بيتها الواهن الذي يدعو إلى تفضيل اللهو وهدر الوقت على العمل والجد, لتسيطر على عقلي وقلبي وتكبلني بقيودها وتغشوا بصري لكي لا أرى حقيقتها الفانية وتشغلني دائماً في متاهاتها حتى أتعبتني وأرهقتني وأدخلتني في دوامتها التي لا حد لها ولا نهاية.
لقد ندمت كثيراً لأنني صدقتها واغتررت بها, وغاب عن بالي قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في التحذير منها : (إني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات، وتحببت بالعاجلة، وعمرت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها) , لقد قررت وحسمت أمري سوف أطلقها الآن كما طلقها أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل ولن أعود إليها أبداً: (يا دنيا إليك عنى أَبيّ تعرضت؟ أم إليّ تشوقت؟ لا حان حينك هيهات، غري غيري لا حاجة لي فيك قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك فعيشك قصير وخطرك يسير واملك حقير، آه من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر وعظيم المورد وخشونة المضجع) .
يا دنيا لقد انكشف زيفكِ وبانت حيلكِ ومكركِ وسأقول لكِ بكل ثقة وإيمان راسخ كما قال لكِ أميري الإمام علي (عليه السلام) من قبل : (غري يا دنيا من جهل حيلك وخفي عليه حبائل كيدك) , فأنتِ: (غرارة ضرارة، زائلة نافدة، أكالة غوالة) , كما وصفكِ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام), فمن خلال تجربتي وتعايشي معكِ وجدت كل هذه الصفات ماثلة أمامي لأتنبه في النهاية من غفلتي وأوقظ من سباتي وأتوب إلى بارئي وأترككِ نهائياً.
والأمرُ من ذلك كله هو محاولتكِ إقناعي بعدم وجود أخرى هي أحلى منكِ وأدوم جمالاً وأرقى منزلة فأنتِ تقفين حائلاً بيني وبينها وتمنعينني من التفكير بها أو السعي إليها, إنها منافستكِ الباقية الخالدة التي زينتها الياقوت والمرجان ولباسها الحرير والسندس والإستبرق وفي بيتها القرار والاستقرار وفي عيشها النعيم السرمدي والمحبة والوئام والرخاء والروح والريحان, حيث لا تعب ولا نصب ولا بغض ولا كراهية ولا فقر ولا فاقة, إنها الجنة التي وعد الله تعالى عباده المتقين بدخولها حيث قال : (أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) , وقوله عز وجل أيضاً : (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) .