ما أشبه فرعون اليوم بفرعون الأمس
لا زال السحر الفرعوني ماثلاً في الأمة لا يفارقها، وما زالت رائحته السلبية تنبعث من أرجاء تلك النفوس التي ملئت من عنصري الكبر والجهل اللذين ينفعلان بطبيعتهما مكونين حالة من الطغيان الفرعوني، والذي بدوره يسلب صاحبه أية فرصة للخيار أو العودة إلى ما قبل الحالة، وعادة ما يظهر هذا الطغيان مصاحباً للحمق باعتبار أن الكبر والطغيان هما فضلة من الحمق، والطغيان يرتكز عند الذين استهوتهم السلطة والملك وتملّكهم حب الدنيا والمال والسيطرة، وهو يتنامى ويتضخم عندهم بشكل مطرّد متسارع ليصبح شأناً وهدفاً ذاتياً تحصل به النفس امتيازها وتسلطها وتعي به وجودها الطاغي على الآخرين، وفي خضم التنامي الطغياني يبدأ الإنسان يتكىء على جبروته وقدراته وقوته الذاتية ويطمئن لها فينسى نسبيته وضعفه واحتياجه الدائم لقوى غيبية تؤمِّن له وجوده واستمراره، وبعد هذه المرحلة ينتقل الكيان الطغياني إلى منطقة الوهم الكبيرة فيتنكَّر لحقيقته ولطبيعته البشرية المحدودة فيخيَّل إليه أن مستواه فوق مستوى الآخرين، وأن له الولاية المطلقة على الناس، والولاية على رقابهم يتصرف فيهم كيفما يريد، وله الأرض وما عليها يتبوّأ منها حيث يشاء ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) ، ثم ما يلبث أن ينتقل إلى مرحل التحدِّي والمناجزةِ، فلا يكتفي بظلم الناس واضطهادهم بل يطلب حالة أكبر للتحدي وللتعدي والظلم، فيظن نفسه رباً من الأرباب بتحديه لله سبحانه وتعالى قولاً وفعلاً (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) ، وتتطور الحالة عنده لتصل إلى صورة أخرى أكثر بشاعة وأشد قبحاً من الصورة السابقة، فبعدما كان يعدُّ نفسه رباً من الأرباب أصبح يعد نفسه الإله الأعلى الأوحد الذي لا إله غيره منكراً وجود الله سبحانه وتعالى (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) ، (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ، وفي هذه المرحلة يتفاقم الوضع ويكون لزاماً على الحق أن يُظهِر دولته وأن يوقف جولة الظلم بقوة مناهضة مقابلة له تعيد مسيرة الحياة إلى نصابها الطبيعي، وترمِّم فطرة الإنسان التي شوَّهها الطغيان الفرعوني، فكان لا بد من مرسوم إلهي يتم من خلاله تعيين رجل يعدل أمة بحجم موسى، يقف كالطود الشامخ أمام هذا المد الذي أخذ يزحف بالأرجاء، ويمد باعه ليفسد النسل والحرث، (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) ، (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، ليفرغ هذا الرسول كل ما في وسعه وجهده ويبين بآيات ربه أن الظلم والعلو في الأرض لا بد أن يتردى في أسفل القاع، َوأن الطغيان لابد أن يمحق أهله إن عاجلاً أو آجلاً (مِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ، واليوم ينبعث فرعون هذه الأمة بلباس جديد - بلباس داعش - ليؤكد وجه الشبه الكبير بينه وبين فرعون الأمس من حيث الظلم والجبروت والطغيان، وكأنما الأيام تعيد وتكرر نفسها من جديد, فهيمنة الأمس على المستضعفين من قوم موسى تمارس اليوم ضد المستضعفين في الأرض على يد هؤلاء الداعشيين ومن يقف وراءهم، وكأنما يطبقون المنهج الفرعوني بحذافيره، فعلوُّهم في الأرض هو نفس علوّ فرعون مصر، وتفريق المسلمين وجعلهم شيعاً وأحزابا، وتآمرهم على قتل المؤمنين واستضعافهم وسلب أموالهم وتشريدهم في الأرض يحاكي الإسلوب الذي اتبعه فرعون في سياسته مع المؤمنين من بني اسرائيل ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ، واستعبادهم للنساء في الرق وبيعهن في الأسواق، هو نفس الاستحياء الذي اتبعه فرعون في نساء بني إسرائيل، ويرون أن لهم الولاية المطلقة على رقاب الناس فهم يستحلُّون دماء وأموال وأعراض كلّ من يخالفهم، مثلما كان يفعل فرعون بولايته على الناس (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) ، ولكنّ الله مثلما بعث موسى إلى آل فرعون وهامان ليكون لهم عدواً وحزناً (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) ، هيأ الله الحشد بفتوى من المرجعية الرشيدة ليكون عدواً وحزناً على الدواعش، ومثلما توعّد الله فرعون وهامان بأن يريهما ما يحذران من قوة إيمان موسى وهارون التي سوف تطيح بهما (وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) ، كذلك توعد الله الدواعش بقوة إيمان الحشد المرعبة التي يخشاها وتخشاها كل قوى الاستبداد والظلم، وهم على علم ويقين مطلق بأن نهايتهم على يديه كما كان فرعون موقناً بأن نهايته على يد موسى، وأن بشائر النصر التي تلوح في الأفق على يد الحشد وتحصد رؤوسهم، تكشف وتبطل زيف عقيدتهم في الاستكبار القائلة بأنهم لا يقهرون وفق المعطيات والرؤى العصرية، مثلما توهم فرعون في يوم ما أنه لا يقهر.