التجاوز على الممتلكات العامة .. مشاكل تحتاج إلى حلول
عندما يسير بنا قطار العمر في رحلة الحياة الصعبة نحتاج إلى محطات للاستراحة وتحتاج معها أرواحنا إلى ملاذات آمنة تنعم فيها بالاستقرار والتأمل، ومراجعة الذات، وخير محطة تستطيبها نفوسنا المتعبة هي شهر رمضان المبارك، الذي جعله الله محفوفاً بالرحمة والمغفرة، فنحتاج أن نراجع أنفسنا ونصحح مساراتنا، لا على مستوى أفراد فحسب بل على مستوى جماعات، فنستضيء بفنارات هذا الشهر المبارك لبناء مجتمعٍ بأمسِّ الحاجة إلى التغيير وتصحيح الأخطاء.
إنَّ الاعتراف بالخطأ فضيلة، ونحن بأمس الحاجة للإقرار بخطايانا وذنوبنا والعودة إلى الله بقلبٍ سليمٍ، والإصرار عليها إنما هو رذيلةٌ وانحدارٌ وتدنٍ في التعامل والسلوك، والخطايا منها ما يكون بيننا وبين الله ولا ذمة لأحدٍ فيها علينا، ومنها ما يكون بيننا وبين الآخرين، بيننا وبين مجتمعنا، ونتعرض إلى الجانب الذي بيننا وبين مجتمعنا، بيننا وبين وطننا الذي نحيا على ترابه وننعم بربوعه، والخطأ الذي نحن بصدد رصده والدعوة إلى الاستتابة منه ببركة هذا الشهر الفضيل هو الاستخدام المنفلت للحريات والذي أحد صوره التطاول على الحق العام، ومثلما كانت الحريات حقٌ كفله الشرع والقانون، فإن ممارسة الحريات تصبح خطأً فادحاً إذا ما تجاوزت حقوق الآخرين وممتلكاتهم، أو كان فيها تعرضٌ لحرياتهم وكراماتهم.
إنّ مما يُتأسف له أنّ تطفح إلى السطح في مجتمعنا مثل هذه السلوكيات غير المنضبطة والتي لا تتناسب مع ما عرف به مجتمعنا من أخلاقٍ حميدةٍ وخصالٍ طيبةٍ متجذّرةٍ من تراثه الأصيل وتأريخه الخالد، وهي بالتأكيد تركة الأنظمة الجائرة ومخلفاتها، وفي حال أن نتعامل مع مثل هذه المظاهر والسلوكيات بأسلوب غضّ الطرف واللامبالاة، يعني أننا نعطي لممارسيها فرصة إشاعتها وجعلها حالة عامة ومقبولة، ونساهم دون أن نشعر بدعمٍ للسلوكيات الخاطئة، إنَّ إحدى هذه المظاهر والسلوكيات الغريبة هو ظاهرة ما اصطلح عليه (الحواسم) وهو التجاوز على الممتلكات والمال العام، والانقضاض عليها والمتاجرة بها وكأنها حقٌ مشروعٌ، وإرثٌ مكتسبٌ، وهذا التجاوز أصبح من المشاكل الكبيرة التي يعاني منها مجتمعنا وعلى كافة الصُعد، ووصل فيها التمادي حداً لا يطاق، مما يؤدي إلى إشاعة الفوضى، وعدم الاستقرار وإعاقة التنمية الاقتصادية وسبل الرقي المجتمعي، وأخذت الأطماع طريقها – بالتأكيد - إلى قلوب ضعاف النفوس في الوقت الذي كان فيه ضعف سلطة القانون وتلاشي هيبة الدولة عاملاً مساعداً على تزايد هذه الأطماع والتجاوزات على قطع وأراضي الدولة وممتلكاتها، وكم يقال (من أمن العقاب أساء الأدب) أو كما يقال في المثل الشعبي ( المال السايب يعلم على البوك)، وفي ازدياد مستوى التحايل والتلاعب على القانون ما يثير الاستغراب من هذه الفوضى العارمة، فتجدُ من يبيع داره أو يؤجرها جاعلاً مما استحوذ عليه من الممتلكات المتجاوز عليها مقراً لسكناه مدعياً الفاقة والعوز، أو تجد الكثير ممن يبنون الدور الحديثة وبمنتهى الإسراف والبذخ على أراضي مغتصبة عائديتها إلى ممتلكات الدولة دون الالتفات إلى عدم حلّيتها وما يترتب على ذلك من حرمةٍ وبطلانٍ لصالح الأعمال والواجبات الشرعية، فضلاً عمن أخذ يتاجر بهذه الممتلكات فيبيع ويشتري بها بأثمان باهضةٍ غير آبهٍ بما تدرّه عليه من السحت والمال الحرام، ناهيك عن التجاوز على الأرصفة والأستحواذ عليها،أو تطاول أصحاب الدور السكنية على واجهات منازلهم وضمّها إلى دورهم بشكل مثير للسخرية والعجب وبين هذا وذاك يضيع من يصدق عليهم العوز والفقر والتشرد والحاجة الماسّة إلى دار بسيطة يستر فيها المواطن الفقير أهله وعياله، إنّ عدم امتلاك أحدنا لقطعة أرضٍ أو دارٍ سكنيةٍ الحقّ لا يعطينا الحقّ لأن نستحوذ على ما ليس لنا من ممتلكات الدولة وأموالها فهي ملكٌ للشعب، وأما أن يقول قائلٌ أنّ هناك سرّاقاً وأن أموال الشعب قد نُهبت، فهذا لا يعطينا الشرعية لأن نسرق أو أن نستحوذ على ما ليس لنا، وإلا فما الذي يفرقنا عن السرّاق وناهبي المال العام ؟، والله يقول في كتابه العزيز(..وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ ..) فالأمور يجب أن تكون في نصابها الصحيح ..،فالحق حقٌ والباطل باطلٌ، وكل ما بني على باطل فهو باطل، وكما يقال في المثل ( كُل مَن ذنبه على جنبه)، وعلى من اضطرته الظروف القاهرة إلى ذلك أن لا يتجاهل فتاوى المرجعية الرشيدة في التقيد بما هو ملزم به إزاء ذلك التجاوز، ولا يعني ذلك رضوخنا في أن يبقى المواطن العراقي الذي عانى ما عانى من الحرمان والتشرد بين المطرقة والسندان دون إيجاد حلولٍ صحيحةٍ وناجعةٍ، أو أن يظلّ المتجاوزون وخصوصاً المُعدمون والمعوزون منهم يعيشون كلاجئين في وطنهم، فحالة الفقر والعوز والتشرد التي يكابدها أبناء وطننا الجريح يجب أن تُحلَّ بمعالجاتها الصحيحة وهي بعهدة المسؤولين المتصدّين لزمام الأمور، وبذمتهم أمام الله تعالى وليس سوى ذلك، فالشوارع والساحات العامة وقطع أراضي ومؤسسات الدولة إنما هي جزءٌ من الحق العام وملكٌ للجميع، وليس لأحدٍ أن يستأثر بها دون سواه، وهي وان تكن من الإفرازات التي قد تفشّت بعد سقوط النظام البائد جرّاء ما تعرض له شعبنا من ظلمٍ وحيفٍ اقترفته بحقه الحكومات الجائرة، إلا أنها تظلّ خطاءً فادحاً ارتكبه الكثيرون عن جهلٍ أو عمدٍ، ونقطةً سوداء في صفحة تأريخنا المشرق، ونعلم جميعاً ما شهدته الساحة العراقية بعد الاجتياح الأمريكي للعاصمة بغداد عام 2003 من مرحلةٍ عارمةٍ في السلب والنهب والاستحواذ على الممتلكات العامة والدوائر الرسمية، ولكي لا نَظلم من دفعت بهم الجهالة إلى ارتكاب ذلك، فإن الكثير منهم عادوا إلى رشدهم فور صدور فتاوى المرجعية الرشيدة المتمثلة بسماحة المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله الوارف)، فأُعيد الكثير مما انتهب إلى مكانه، وأُخليت الكثير من الأبنية والمؤسسات التي كانت قد استُحوذَ عليها، وبقي هناك من لم توفر لهم فرص الحياة على إيجادٍ مكانٍ لسكناهم، غير أنّ من المُمض والمؤلم أن هناك من هو خارج دائرة الفقر والعوز، وأخذته العزّة بالإثم وتمادى في غيّه فآثر الإصرار على الذنب والخطأ وقبل على نفسه أكل السُحت والمال الحرام، واستمر الحال على ما هو عليه والى يومنا هذا حيث لم تتوصل الجهات المختصة والمسؤولة إلى إيجاد حلول وسطية ومنصفة، كما أن الوضع المالي الصعب في كيان الدولة العراقية، والفساد الإداري والمالي حال دون تفعيل التوصيات التي صدرت في 3013 من قبل الأمانة العامة لمجلس الوزراء في جلستها المنعقدة في 1/10/2013 والتي تضمنت في بنودها تعويض الفقراء بقطع أراضي بمواصفات معينة وشروط حددتها تلك التوصيات، والإخلاء الأصولي للتجاوزات أو إبرام عقود للإشغار مع الجهات المالكة حكومية أو غير حكومية، كما تضمنت التوصيات معالجة الأراضي الزراعية وتحويلها إلى سكنية وفق شروط معينة أيضاً، وخلاف ذلك يتم الإخلاء للمخالفات.
فلتكن هذه دعوةٌ خالصة الى السادة المسؤولين وأصحاب القرار للنظر في حالة المتجاوزين وإيجاد المعالجات والحلول الناجعة لأوضاعهم بإيجاد البدائل المناسبة، وتفعيل التوصيات الصادرة من أمانة مجلس الوزراء التي أشرنا إليها فلا يمكن أن تبقى مشاكل التجاوز على الممتلكات العامة بغير حلولٍ وافيةٍ، كما إنها دعوة للمتجاوزين إلى الالتزام التام بفتاوى المرجعية الرشيدة فيما يخص الممتلكات والمال العام، وأن لا يمر علينا هذا الشهر الفضيل دون الفوز برضى الله ومغفرته في أيامه المباركة، فالشقي من حُرم غفران الذنوب في هذا الشهر المبارك كما يقول رسول الرحمة محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله).