الخطاب الرسالي الشجاع في مواجهة الظلم
مما لا شك فيه أن الحقبة التاريخية التي مرت بها الإمامة إبان عصر حكم بني العباس هي الأصعب والأخطر أثراً في تأريخ تولي أئمة أهل البيت(عليهم السلام) لهذا المنصب الإلهي، هذا ما تشير إليه الكثير من المحن والأحداث الجسام التي جرت في ذلك العصر بدءاً من الفترة التي عاصرها سادس أئمة أهل البيت(عليهم السلام) الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) وانتهاءً بإمامة خاتمهم الإمام المهدي(عجل الله فرجه الشريف).
ولعل من أحرج تلك المراحل ما مر به إمامنا الكاظم(عليه السلام) في فترة إمامته، حيث تؤكده جميع الأحداث أنه عانى الأمرين وكابد صنوف الأذى، وواجه أشكال التحديات من قبل حكام عصره، الأمر الذي عكس طبيعة المرحلة وخطورتها، وبنظرة تأملية لتلك الأحداث ووضعها على طاولة التحليل والنقاش يمكن أن نلمس حجم المقاومة التي أبداها أمامنا الكاظم(عليه السلام) والثلة الرسالية المؤمنة التي اتبعته، وكيفية تصديه لهذه التحديات بكل حكمة وصبر وتجلّد، وهذا ما تعكسه جملة من الأخبار التي أوردتها كتب الحديث، منها حادثة لقاء الإمام (عليه السلام) بطاغية عصر هارون العباسي خلال موسم الحج، وما دار فيه من حديث اتسم بالتحدي والصلابة من قبل الإمام، اثبت خلالها حجية أهل البيت(عليهم السلام) وأحقيتهم في تولي أمر الأمة، حيث يَذكر أبن شهر آشوب في مناقبه أنه (حج هارون فلما دخل المدينة تقدم إلى التربة، فقال:السلام عليك يا ابن العم مفتخراً بذلك على غيره، فتقدم أبو الحسن وقال:السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبه، فتغير وجه هارون وأمر به فأخذ من المسجد) .
أما الموقف الآخر الذي اثبت الإمام(عليه السلام) من خلاله ثقته العالية بالله، وقوته المستمدة من إيمانه ورسوخ عقيدته، ويمكن عَدَهُ ذروة التحدي والمواجهة المباشرة مع رأس السلطة الغاشمة آنذاك؛ فقد تمثل في الرسالة التي بعثها إمامنا الكاظم(عليه السلام) إلى الطاغية هارون العباسي من السجن الذي كان يُحتَجز فيه، حيث أعرب فيها عن سخطه البالغ عليه، فقد(روى الخطيب بإسناده عن محمّد بن إسماعيل، قال : بعث موسى بن جعفر إلى الرشيد من الحبس رسالة كانت: انه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلاّ انقضى عنك معه يوم من الرخاء، حتى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون) .
إن هذا الخطاب الرسالي الشجاع في مواجهة الظلم والتصدي للانحراف الذي تضمنته هذه رسالة الإمام(عليه السلام) يكشف عن المنهجية الأصيلة والمبدئية الراسخة المستمدة من نهج النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) في تصديه للظلم والانحراف، فضلاً عن أسلوبه في إبداء مقاومته ومعارضته الفعالة لكل ما وقع عليه من حيفٍ وظلمٍ وإقصاء، وما أصابَ الأمةَ من اثر ذلك من وهنٍ وتراجع على الصعيد الأخلاقي والديني نتيجة لممارسات السلطة الحاكمة.
فعنصر المقاومة والتحدي لا يكاد ينفك عن المفردات القيّمة الواردة في رسالة الإمام الآنف الذكر، بل أكثر من ذلك جاء ليعبر عن استشعار الإمام لأشد أنواع الأذى والعذاب، وتيقنه باشتداد الصراع بينه وبين خصومه وبلوغه مرحلة الذروة، الأمر الذي جعله يبدي أعلى درجات الرفض والمواجهة، فعندما يوجه الإمام(عليه السلام) رسالته بهذه اللهجة الحادة إلى طاغية عصره، وينذره بالمصير الحتمي الذي سيؤول إليه جميع الخلائق، ويحذره من انقضاء أيامه وهو غارق في ملذاته وشهواته، ومباهج الحياة الزائلة؛ فإن هذا يعطي مؤشراً كبيراً على رجاحة وسلامة النهج الذي يسير وفقه الإمام(عليه السلام) تبعاً لمعطيات المرحلة والظروف التي يعيشها، وضرورة موجهة مثل هذه المظاهر السلطوية الجائرة بكل صلابة ووضوح.
أما الأمر الآخر الذي يمكن أن نستشف من رسالة الإمام(عليه السلام) فهي حجم ما كان يكابده ويعانيه أمامنا من آلم مبرحٍ، وأذى كبيرٍ وهو يَرزَح في غياهب سجون لا يعرف ليلها من نهارها، مفوضاً في ذلك أمره إلى الله تعالى، ومسلماً لقضائه وقدره، ومنتظراً لذلك اليوم المشهود الذي سيحاكم فيه خصمه الطاغية عند الله، يومها يخسر فيه المبطلون والظالمون.
إن هذه الحادثة وغيرها من المواقف الحازمة لإمامنا الكاظم(عليه السلام) تدل على مدى إيمانه بالله سبحانه وتعالى، وانقياده لأمره الحكيم، وترفّعه عن سؤال غيره من المخلوقين، كما إنها تعد من أعظم أشكال الجهاد كونها كلمة حق بوجه سلطان جائر، أراد منها صرخة مدوية تبعث روح التحدي ورفض الظلم في جسد الأمة.