من عبق الثغور
إنه تهافت الفراش على زهر الياسمين في وقت الربيع, ورحيقٌ عذبٌ يجذبهم إلى ساحته, وأصوات كصوت أمٍ تهدهد رضيعها بكلمات ليست (دللول يلولد يبني), إنما هي هيقعة سيوفٍ ورثوها من جدهم عليه السلام الذي كان يأنس بالحروب كما يأنس الرضيع بمحالب أمه, وكما وصفه الشاعر بقوله: (هو البكاء في المحراب ليلاً هو الضحاك إذا اشتد الضراب), هكذا يأنس أبنائه وشيعته في جبهات القتال, القتال الذي وصفه القرآن بأنه (كُره) لأنه يعني المشقة ومفارقة الأهل والأحباب, لأنه يعني موت تقطع فيه الأشلاء, ولكن الإباء يأبى أن يخضع لأبناء آكلة الأكباد وأشرار العباد, المفتخرين بجدهم يزيد شارب الخمر, اللاعب بالنرد والمتصيد بالفهد, أنيس القرود ومعلن الجحود, ومجهول الآباء والجدود, فتأتي الصيحة بوجهه ووجه الحاقدين, صيحةَ خريفِ إحدى وستون للهجرة, صيحةٌ صُبغت بلون الشفق عندما أطلقها أبو الأحرار عليه السلام يوم الفتح: (هيهات منا الذلة, يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون, وحجور طابت وطهرت, وأنوف حمية, ونفوس أبية, من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام), فتحٌ أنار عقول تحررت, وحملت مسؤولية ضحى من أجلها النبي الأعظم من خلال تحمله جهل وإيذاء أجلاف الصحراء, مسؤولية فاز بها أمير المؤمنين عليه السلام في محرابه, مسؤولية حملها أئمة أهل البيت ما بين مسموم ومقتول, مسؤولية حملها مراجعنا ليطلقوا صيحةً بالجهاد تُمهد لصيحة السماء, فبادر الشجعان لنداء يحفظ سير المسؤولية العظمى التي تحفظ شرف الأمة وتحفظ تضحيات الآباء والأجداد, إنه سر يجسد عشق الشهادة ويصحح روايات التأريخ ليس من خلال الكتب, بل من خلال الثغور والمرابطين عليها, بأسٌ بأيديهم من بأس حامل اللواء, حمله نهر العلقمي ليصب في قلوب المؤمنين المجاهدين فيجعل قلوبهم كزبر الحديد أو أشد قسوة على أعداء الله وأعداء ورسوله, بينما يهرب العدو بملابس النساء ليذكرونا بهروب صفين الذي شوه وجه التاريخ, (حسبكم هذا التفاوت بيننا وكل إناءٍ بالذي فيه ينضحُ).