الأنبياء "عليهم السلام" عُدة التغيير
ليس هناك نقطة أبعد عمقاً في اليأس من تلك التي يصل إليها الإنسان حينما يستبيح الظلم ساحته، وينتهك الجور حرمته، ولا يبقي له في ذاكرته سوى صور مهشمةً وبقايا أطلال لنفسٍ مهلهلة، وذات مفلسة لا تمتلك أي رصيدٍ للوجود وهميّاً كان أم حقيقياً، بل أن الظلم يعطل كل عصارات الفرز الواعية في النفس، ويسلبها معرفة ذاتها، ومعرفة ما ينبغي به حفظ كيانها وإنسانيتها، وأنى لها أن تعرف ذلك بعد أن استهلك الظلم قدرتها على التمييز، وبعدما فرض الظلم نفسه نظاماً بديلاً عن كل ما مطروح من نظم حياتية، وقد أغراها بعناوينه المستهلكة، وتغشاها بضباب كثيف مهيل من الضلال، لتصبح مضغوطة ومنقادة، والنفس المنقادة لا تمارس دورها في الحياة بصورة طبيعية، لأن التعسف يأخذ بزمامها نحو التطرف، فإما أن تستسلم وتخنع للظلم إلى حد تقبله ضرورة حياتية، بحيث يسلبها أية قوة عاقلة فاعلة مريدة حرة تختار مصيرها بنفسها، وليس أمامها إلاّ أن تستسلم له تمام الاستسلام، لدرجة تصبح قلقة مضطربة غير مستقرة إذا لم يمارس عليها الظلم، حالها حال المسمار الذي لا يثبت ولا يستقر إلاّ بالطرق على رأسه، أو أن تصبح ظالمة بطبعها تُظهر ارتدادات انفعالية حاصلة نتيجة لضغوط نفسية من كثرة ما مورس عليها من تعسف، فتنقلب بوصلتها باتجاه ممارسة الظلم لا مواجهته، تماماً مثل الذي وضع في دائرة المستقبحات قسراً، فهو وإن كان كارهاً لها، لكنه وبمرور الأيام يعتاد ارتكابها، ويرى بعد ذلك أن لا مناص من ممارستها، لإرضاء روحه السادي، ويصبح فعل الظلم عنده مبرراً وغير مستقبح ولا مستهجن، بل لعله يكون ممدوحاً لديه، هكذا وظف الظلم أدواته كي يحول بين الإنسان وإنسانيته، أو يحيل الحياة إلى غابة جامحة ينقسم فيها سكانها إلى صنفين إلى آكل ومأكول، فإما فريسة سهلة في ناب المفترس، أو وحش كاسر يلتهم كل شيء.
إن الظلم بطبعه العدمي لا ينتج إلاّ أوضاعاً اجتماعية مزرية، وهو في غاية الازدراء عندما يكون منهاجاً تتخذه الأمم، وتتعاطاه المجتمعات لتسيير أمورها وإدارة شؤونها، ولا يتوقع منه أن يكون قطباً جاذباً للذين يريدون العيش بسلام ووئام، وإنما هو حالة كاشحة ومنفرة ومتعارضة مع وحدة الأمة واجتماعها ووئامها وتآلفها، ولأجل ما يترتب عليه من عواقب وخيمة، وضع الله نظمه وشرائعه وأرسل رسله كي يناهضوا الظلم، ويعيدوا الأمور إلى نصابها، أو يغيّروا ما اعتاده الناس من عادات وسلوكيات تتنافى مع الفطرة السليمة التي خلقهم الله عليها، ولكن بإسلوب يراعي هذا الاعتياد من دون أن يخلق عندهم مواقف سلبية، أو ردة فعل اتجاه هذا التغيير، تجعلهم يصطفون مع الظلم ضد العدل، لذا كان الانتخاب لشخصيات التغيير عميقاً ودقيقاً وحساساً وخطيراً، فليس كل أحد مؤهلا لهذه المهمة الخطيرة، فلربما هفوة بسيطة غير متوقعة تنقلب إلى زلزال يهدّ مشروع التغيير من الأساس، وعليه فإن الاختيار الإلهي للأنبياء والأوصياء (عليهم السلام )، وإعدادهم لهذا المشروع ولهذه المعركة المصيرية الكبرى ( معركة تقويض الظلم ) كان اختيارٌ واقعياً جداً وموفقاً إلى أقصى غايات التوفيق، والسبب يعود إلى أن شخصية كل نبي بعلم الله، هي الأقدر على الاندماج بالقضية العادلة والاتحاد معها، والأكثر استعداداً وتقبُلاً لمشروع التضحية والشهادة من أجل تغيير واقع فاسد، وهي الأكثر سخاءً في التضحية بالنفس والأهل والمال من دون مقابل، فقط تلبية للأمر الله، وترسيخاً لمبادئ العدل وتحقيقاً لآمال الإنسان الكبرى في الحرية والعدالة والكرامة، كما إن كل نبي ( لاسيما الأنبياء أصحاب الرسالات العالمية)، لا بد أن تتمتع شخصيته الكريمة بمؤهلات جاذبة ومهيمنة على النفوس، ما يمكنها من استقطاب جميع الناس دون استثناء، فلو لم يكن للنبي أو الوصي ذاك الثقل الديني والمركز الاجتماعي، فيكفيه في المقام أنه يمتلك كاريزما القيادة الفذة التي ينتظر منها الجميع خوض الصراعٍ المصيري ضد معسكر الظلم العالمي، ويتطلع له الجميع بما منح من رمزية عالمية، تسمح له بإعادة توازن القوى وترتيبها بالوضع الذي يسمح للتنوع البشري بالتعايش بسلام وحرية، باعتبار أن ذاته المكرمة متى ما انقاد لها الناس الإنقياد الحقيقي، منحتهم معنى التحرر الصادق من كل قيود العبودية، وزودتهم بأجنحة الانطلاق في أفق الحرية، إذ لا يتصور أن نفسه يمكن أن تنزع نحو المطامع الدنيوية أو السلطوية التي عادة ما يرافقها عملية إخضاع الناس قسراً، فمع النبي أو الوصي تطمئن النفوس إلى أحقية القضية وعدالتها، وأن النصر محسوم للقيم والمبادئ، حتى لو خسر المعركة بالمنظور الآني وبالحسابات العسكرية، وسوف تعود المعركة على جميع الناس بالعود الحميد، فالكل يتطلع لخوض هذه المعركة، حتى أولئك الذين لم يكونوا في صف الأنبياء، فإنهم يطمعون وينتظرون عوائد هذا الصراع، ليستفيدوا مما تُحدثه حركة الأنبياء من شحن النفوس والمشاعر لدى الجماهير، محاولين توجيهها باتجاه مصالحهم الدنيوية، ولكن الأنبياء وأوصيائهم (عليهم السلام)، قطعوا على هؤلاء من أول الشوط ما كانوا يطمحون له في المتاجرة بعوائد هذا الصراع، ووضعوا منذ البداية المعيار الحقيقي والصحيح لمواجهة الظلم والسعي لتغييره، وقالوا بعبارة واضحة وصريحة، هذه هي ساحة المواجهة، فمن اقتحمها كان في عداد المخلصين الذين يبذلون مهجهم لأجل ما آمنوا به، وإلاّ فهو من أولئك الذين تعودوا رفع الشعارات المستهلكة، من دون أن يكون لهم أي دور فعلي في واقع التغيير، وبذلك أسقطوا (عليهم السلام) كل أوراق التوت عن أولئك الذين حاولوا خداع الناس بالشعارات للحصول على مكاسبهم الدنيوية.
إن الأنبياء (عليهم السلام) حازوا الرمزية العالمية، كون مشروعهم لم يناد بالفئوية، ولم يعيروا القومية الضيقة أية أهمية، ولم يأخذ مشروعهم بعداً شخصياً، كي يقال إنهم خاضوا المعركة من أجل نوازع ورغبات شخصية، بتلك الجماعات الصغيرة من الأعوان والأنصار، إنما أرادوا صيانة الإنسان من خلال ترسيخ مبادئ العدل والإنصاف، وإقرار قانون التكافؤ الإنساني، وإلغاء روح التفاضل العرقي والقومي، لذا كان الأنبياء للجميع، للعربي والأعجمي والشرقي والغربي والمسيحي والمسلم والشيعي والسني والغني والفقير والشريف والوضيع، يجمعهم تحت مظلة الإنسانية، فالكل بتنوعه وأطيافه يرى أن له من رسالة الأنبياء(عليهم السلام) ومشروعهم حصة ما لغيره تماماً، لأن هذه الفروض التي قد أسسوها (فروض العدل الاجتماعي وقواعد الإنصاف)، إنما هي للكل دون استثناء، وكانوا (عليهم السلام) عنواناً بمانشيت عريض لوحدة الجنس البشري، ودعوة صالحة للم الشمل الإنساني، وصورة ملهمةً لكل أحرار العالم الذين يسيرون على خطاهم، أي هدف أسمى من أن تكون الإنسانية محفوظة بإنسانيتها.